سورة فاطر - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}.
لما ذكر تعالى حال السعداء، شرع في بيان مآل الأشقياء، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}، كما قال تعالى: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه: 74]. وثبت في صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون». قال الله تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]. فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم، ولكن لا سبيل إلى ذلك، قال الله تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 74، 75]، وقال {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97] {فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} [النبأ: 30].
ثم قال: {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} أي: هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب بالحق.
وقوله: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} أي: ينادون فيها، يجأرون إلى الله، عز وجل بأصواتهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أي: يسألون الرجعة إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم الأول، وقد علم الرب، جل جلاله، أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون. فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم، كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 11، 12]، أي: لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك، ولو رددتم لعدّتم إلى ما نهيتم عنه؛ ولهذا قال هاهنا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أي: أوما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟
وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد هاهنا فروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال: مقدار سبع عشرة سنة.
وقال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نُعَيَّر بطول العمر، قد نزلت هذه الآية: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة، وكذا قال أبو غالب الشيباني.
وقال عبد الله بن المبارك، عن مَعْمَر، عن رجل، عن وهب بن مُنَبِّه في قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} قال: عشرين سنة.
وقال هشيم، عن منصور، عن زاذان، عن الحسن في قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} قال: أربعين سنة.
وقال هُشَيْم أيضا، عن مجاهد، عن الشعبي، عن مسروق أنه كان يقول: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة، فليأخذ حذره من الله عز وجل.
وهذه رواية عن ابن عباس فيما قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أربعون سنة.
هكذا رواه من هذا الوجه، عن ابن عباس. وهذا القول هو اختيار ابن جرير. ثم رواه من طريق الثوري وعبد الله بن إدريس، كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} ستون سنة.
فهذه الرواية أصح عن ابن عباس، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضًا، لما ثبت في ذلك من الحديث- كما سنورده- لا كما زعمه ابن جرير، من أن الحديث لم يصح؛ لأن في إسناده مَنْ يجب التثبت في أمره.
وقد روى أصبغ بن نُباتة، عن علي، رضي الله عنه، أنه قال: العمر الذي عَيَّرهم الله به في قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} ستون سنة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا دُحَيْم، حدثنا ابن أبي فُدَيْك، حدثني إبراهيم بن الفضل المخزومي، عن ابن أبي حُسَين المكي؛ أنه حدثه عن عَطاء- هو ابن أبي رباح- عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله فيه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِير}».
وكذا رواه ابن جرير، عن علي بن شعيب، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فُدَيك، به.
وكذا رواه الطبراني من طريق ابن أبي فديك، به. وهذا الحديث فيه نظر؛ لحال إبراهيم بن الفضل، والله أعلم.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن رَجُل من بني غفَار، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله إليه».
وهكذا رواه الإمام البخاري في كتاب (الرقاق) من صحيحه: حدثنا عبد السلام بن مُطَهَّر، عن عُمَر بن علي، عن مَعْن بن محمد الغفَاري، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخَّر عمره حتى بَلَّغَه ستين سنة». ثم قال البخاري: تابعه أبو حازم وابن عَجْلان، عن سعيد المَقْبُرِيّ.
فأما أبو حازم فقال ابن جرير: حدثنا أبو صالح الفَزَاريّ، حدثنا محمد بن سَوَّار، أخبرنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القاريّ الإسكندريّ، حدثنا أبو حازم، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عَمَّرَه الله ستين سنة، فقد أعذر إليه في العمر».
وقد رواه الإمام أحمد والنسائي في الرقاق جميعا عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن به.
ورواه البزار قال: حدثنا هشام بن يونس، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة». يعني: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}.
وأما متابعة ابن عجلان فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو السفر يحيى بن محمد بن عبد الملك بن قرعة بسامراء، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله، عز وجل، إليه في العمر».
وكذا رواه الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن هو المقرئ، به.
ورواه أحمد أيضًا عن خلف عن أبي مَعْشَر، عن سعيد المَقْبُرِيّ.
طريق أخرى عن أبي هريرة: قال ابن جرير: حدثني أحمد بن الفرج أبو عُتْبَة الحِمْصِي، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا المطرف بن مازن الكناني، حدثني مَعْمَر بن راشد قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفَاري يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أعذر الله عز وجل، إلى صاحب الستين سنة والسبعين».
فقد صح هذا الحديث من هذه الطرق، فلو لم يكن إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد الله البخاري شيخ هذه الصناعة لكفت. وقول ابن جرير: إن في رجاله بعض من يجب التثبت في أمره- لا يلتفت إليه مع تصحيح البخاري، والله أعلم.
وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة، فالإنسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم، كما قال الشاعر:
إذَا بَلَغَ الفتَى ستينَ عَاما *** فقد ذَهَبَ المَسَرَّةُ والفَتَاءُ
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله إلى عباده به، ويزيح به عنهم العلل، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث، قال الحسن بن عرفة، رحمه الله:
حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم مَن يجوز ذلك».
وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعا في كتاب الزهد، عن الحسن بن عرفة، به. ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وهذا عَجَب من الترمذي، فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق أخرى، عن أبي هريرة حيث قال:
حدثنا سليمان بن عمر، عن محمد بن ربيعة، عن كامل أبي العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك».
وقد رواه الترمذي في كتاب (الزهد) أيضا، عن إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن محمد بن ربيعة، به. ثم قال: هذا حديث حسن غريب، من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وقد روي من غير وجه عنه. هذا نصه بحروفه في الموضعين، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو موسى الأنصاري، حدثنا ابن أبي فُدَيْك، حدثني إبراهيم بن الفضل- مولى بني مخزوم- عن المَقْبُريّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُعْتَرك المنايا ما بين الستين إلى السبعين».
وبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقل أمتي أبناء سبعين». إسناده ضعيف.
حديث آخر في معنى ذلك: قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:
حدثنا إبراهيم بن هانئ، حدثنا إبراهيم بن مهدي، حدثنا عثمان بن مطر، عن أبي مالك، عن رِبْعِي عن حذيفة أنه قال: يا رسول الله، أنبئنا بأعمار أمتك. قال: «ما بين الخمسين إلى الستين» قالوا: يا رسول الله، فأبناء السبعين؟ قال: «قَلّ مَنْ يبلغها من أمتي، رحم الله أبناء السبعين، ورحم الله أبناء الثمانين».
ثم قال البزار: لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد، وعثمان بن مطر من أهل البصرة ليس بقوي.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثا وستين سنة. وقيل: ستين. وقيل: خمسًا وستين سنة. والمشهور الأول، والله أعلم.
وقوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}: روي عن ابن عباس، وعِكْرِمَة، وأبي جعفر الباقر، وقتادة، وسفيان بن عُيَيْنَة أنهم قالوا: يعني: الشيب.
وقال السُّدِّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن زيد: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى} [النجم: 56]. وهذا هو الصحيح عن قتادة، فيما رواه شيبان، عنه أنه قال: احتج عليهم بالعمر والرسل.
وهذا اختيار ابن جرير، وهو الأظهر؛ لقوله تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77، 78]، أي: لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل، فأبيتم وخالفتم، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15]، وقال تبارك وتعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8، 9].
وقوله: {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} أي: فذوقوا عذابَ النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعماركم، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال.


{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا (39)}.
يخبر تعالى بعلمه غيب السموات والأرض، وأنه يعلم ما تكنه السرائر وتنطوي عليه الضمائر، وسيجازي كل عامل بعمله.
ثم قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ} أي: يخلف قوم لآخرين قبلهم، وجيل لجيل قبلهم، كما قال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ} [النمل: 62] {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي: فإنما يعود وبال ذلك على نفسه دون غيره، {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا} أي: كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله، وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، بخلاف المؤمنين فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحَسُن عمله، ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة، وزاد أجره وأحبه خالقه وبارئه رب العالمين، فسبحان المقدر المدبر رب العالمين.


{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)}.
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من الأصنام والأنداد، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} أي: ليس لهم شيء من ذلك، ما يملكون من قطمير.
وقوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} أي: أم أنزلنا عليهم كتابا بما يقولون من الشرك والكفر؟ ليس الأمر كذلك، {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا} أي: بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي غرور وباطل وزور.
ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره، وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا} أي: أن تضطربا عن أماكنهما، كما قال: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} أي: لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو، وهو مع ذلك حليم غفور، أي: يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يَعْجَل، ويستر آخرين ويغفر؛ ولهذا قال: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}.
وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا بل منكرًا، فقال: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني هشام بن يوسف، عن أمية بن شبل، عن الحكم بن أبان، عن عِكْرِمَة، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى، عليه السلام على المنبر قال: «وقع في نفس موسى عليه السلام: هل ينام الله عز وجل فأرسل الله إليه ملكا، فأرقه ثلاثا، وأعطاه قارورتين، في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما. قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى، حتى نام نومه، فاصطفقت يداه فَتَكَسَّرت القارورتان. قال: ضرب الله له مثلا إن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض».
والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع، بل من الإسرائيليات المنكرة فإن موسى عليه السلام أجَلّ من أن يُجَوّز على الله سبحانه وتعالى النوم، وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز بأنه: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} [البقرة: 255]. وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القِسْطَ ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
وقد قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله- هو ابن مسعود- فقال: من أين جئت؟ قال: من الشام. قال: مَنْ لقيت؟ قال: لقيت كعبًا. قال: ما حدثك كعب؟ قال: حدثني أن السموات تدور على مِنْكَب مَلَك. قال: أفصدقته أو كذبته؟ قال: ما صدقته ولا كذبته. قال: لوددت أنك افتديت مَن رحلتك إليه براحلتك ورَحْلِها، كَذَب كعب. إن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}.
وهذا إسناد صحيح إلى كعب وإلى ابن مسعود. ثم رواه ابن جرير عن ابن حميد، عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ذهب جُنْدب البَجَلي إلى كعب بالشام، فذكر نحوه. وقد رأيت في مصنف الفقيه يحيى بن إبراهيم بن مُزَين الطليطلي، سماه سير الفقهاء، أورد هذا الأثر عن محمد بن عيسى بن الطَّبَّاع، عن وَكِيع، عن الأعمش، به. ثم قال: وأخبرنا زونان- يعني: عبد الملك بن الحسن- عن ابن وهب، عن مالك أنه قال: السماء لا تدور. واحتج بهذه الآية، وبحديث: «إن بالمغرب بابا للتوبة لا يزال مفتوحا حتى تطلع الشمس منه».
قلت: وهذا الحديث في الصحيح، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7